الكاتب: د. سلمان بن فهد العودة
السبت 26 جمادى الأولى 1432الموافق 30 إبريل 2011
الريح الباردة تهبّ بقوة، كانت الناس تسير بسرعة، واللثام على الوجوه، وعزيف الريح يطغى على الأصوات , فلا يكاد يسمع أحد من أحد.
وقفت أستثبت من الطريق من أحد المارّة، انتصبت أمامه لئلا يتجاهلني، وحييته ثم سألته عن "سي بوينت"؟
لم يلتفت إليّ، ومضى في سبيله.
وآخر.
وثالث.
ثم ابتلعته، وأنا أشعر أن في هذا مرضاة الله، الذي يحبّ منّا أن ننتصر على مشاعرنا السلبية تجاه الآخرين. وفوراً خطر في بالي معنى بالغ الأهمية، يوحي بأن أكثر ما يُغضب الناس تجاهلهم الذي يعني ازدراء أشخاصهم، أو عدم احترامهم.
الإحساس بالأهمية من أعظم الدوافع الإنسانية.
السجن ليس هو الجدران والأقفال والشبابيك والقيود والأحكام.
السجن الحقيقي هو إشعار المرء بالمهانة والاحتقار، وأنه زائد على الوجود، ولا أهمية له يحيا أو يموت، يغضب أو يرضى، يقترب أو يبتعد.
أن تحترم نفسك، فهي البداية الجوهرية ليحترمك الآخرون، أن تحافظ على شخصيتك وكرامتك وحريتك وإنجازك، أن تواصل نجاحك ولو في " لعب الكعاب "!
احترام الطفل الصغير ليس مجاملة لوالديه فحسب، بل هو احترام لأسرته، واحترام لمستقبله، هذه الملامح الصغيرة سوف تكبر، وهذا الصبي سيصبح سيداً أو عالماً أو مبدعاً أو وزيراً أو غنياً، وهذه الفتاة ستكون محطّ آمال الخطّاب والعزّاب، وسيدة بيت، وربة عمل، وأم أولاد وأحفاد مرموقين.
الشباب والمراهقون، أغلبية العالم العربي، المسكونون كغيرهم بهاجس الاحتراف، والحصول على الاستقلال، يجب أن يحظوا باحترام الأب والمعلم والداعية والمسؤول قبل أن يتخذوا قراراً نفسياً بالانفصال.
العامل الذي ينظف الشارع أو السيارة هو إنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء: من الآية70).
يشترك معك في الإنسانية التي هي أخص صفاتك، وربما فاقك بعفافه، أو صبره، أو إيمانه، رب سائق أو خادم يقوم الليل وسيده ينام عن صلاة الجماعة « ابْغُونِى ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ » رواه أبو داود والترمذي وأحمد، " هذا بنغالي "، " هذا هندي "، " هذا.. هذا " ! إنها لغة الكِبر والتعاظم " بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ".
المستفيد، مراجعاً في إدارة حكومية، أو زبوناً، أو مسافراً في مطار، أو منتظراً في طابور..، يحتاج إلى الاحترام في الحالين، سواء حصل على ما يريد، أو حُرم منه، حصوله على الاحترام يمنحه الرضا ويطبع الابتسامة على وجهه لينصرف وهو سعيد.
احترم نفسك، تلويح بردة الفعل، وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ « نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ».
من لطف التعبير النبوي أن عدّ هذا شتماً للوالدين.
فشتمك لوالدي الرجل الآخر هو مثل شتمك لوالديك.
وهو أيضاً سبب فيه.
وفي التنزيل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام: من الآية108)، وأعظم حرمة هي حرمة المقدسات الإيمانية الربانية، كالإلوهية والنبوة وكلمات الله وشرائعه التي لا يجوز أن تمس تحت أي ذريعة إبداعية أو ابتداعية.
"احترم نفسك!"
كلمة يقولها الآخر وهو يهمّ بالإيقاع بك، وبذا تحولت من لغة جميلة صادقة إلى تهديد ترتعد له الفرائص.
احترام النفس يعني احترام الإنسان ذاته.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : « إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ».
من إيحاءات النص النبوي أن الوجه موضع التشريف والكرامة، ومجمع الحواس، السمع والبصر والشم والذوق، وتقاسيمه تعبّر عن معظم المعاني الذاتية : من طيبة وكرم وسماحة، أو أضدادها، وعن المشاعر كالغضب والرضا والفرح والحزن، والفنان المبدع يرسم ذلك بريشته بما لا تطيقه لغة الأديب والشاعر..
هي كرامة إنسانية إذاً، أنت أحد أفرادها، وأخوك الآخر كذلك، وانتهاك كرامته هو عدوان عليك أنت في نهاية المطاف.
المقيم والمواطن والغريب كلهم سواسية كأسنان المشط
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ)(المائدة: من الآية30).
سماه أخاً مع ممارسة القتل، وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن آدم الأول، وحمّله وزر كل نفس تُقتل ظلماً، لأنه سنّ القتل.
الذين يقتلون الناس، أو يقتلون شعوبهم فقدوا إنسانيتهم، وفقدوا احترامهم لأنفسهم، وفقدوا الشرف والكرامة البشرية، وهم أعظم الناس جرماً عند الله بعد المشركين.
ليس في قتل الإنسان لأخيه شرف، ولذا كانت المزية للمقتول على القاتل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ)(المائدة: من الآية29).
الحياة عطاء وفضل، ولذا جعل الله القصاص حياة، لأنه يمنع القتل، ويحمي الأرواح المعصومة.
والمرأة حين تموت على ولدها فهي شهيدة ؛ لأنها ماتت بـ "جُمْع"، حين كانت روح الحياة الجديدة ينبثق من رحمها الولود المعطاء، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
هذا شيء يعيه صناع المجد على مدار التاريخ.
وليس يفخر ماجدٌ بمجرد قتله لأعدائه، ولكنه يتباهى بالتضحيات التي قدمها، والتحديات التي خاضها.
ذلك الجندي المنهزم الكسير تحت أقدام عدو شرس شديد البأس، يعلوه بالسلاح، وبيده تقرير مصيره، ولسان حاله يقول :
اقض ما أنت قاضٍ ما دمت لا تستطيع أن تسلبني حريتي وكرامتي وشرفي، ولا أن تمنحني إياها !
حين يستحضر الجندي معنى الشرف والاحترام سيكون " إنساناً " في كل شأنه، وليس مجرد أداة للبطش والفتك.
أن تصنع جنوداً من جديد يدركون أن مهمتهم ليست هي التدمير، بل صناعة الحياة وإشاعتها، فذلك تحكيم المبادئ التي رسمتها الشريعة والقيم الرفيعة.
الجندية المقترنة بالخوف والرعب والانتهاك ليست هي الحامي ولا المؤهل للبقاء، بل جندية الأرواح الصامدة التي لا تقهر، والتي علاقتها الحب والاحترام وحفظ الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق